في الوقت الذي ينسحب النص من المسرح، ويحل مكانه الجسد، يبدأ البحث عن لغة الجسد والمعنى وجماليات كثيرة محمولة على لوحات ومشاهد، تابعناها في المسرح الحركي "وحشة"، برؤية وسيناريو المخرج وليد قوتلي، العمل الذي قدم على مسرح جانكشن في السركال إفينيو بدبي، والذي فتح باب السؤال حول فنية الكتابة الكوريجرافية، وعلاقة العرض بالجمهور، والتفاعل الخفي الذي يسري بينهما.
حين يتحول المسرح إلى عمل بصري، ويصير جسد الممثل هو ذاته النص والعرض، نسأل: "هل يمكن لهواة يعملون في شروط حياة صعبة أن يصلوا إلى رؤية المخرج، ويقدموا عملا يوصلنا إلى الدهشة".
26 مشهدًا، قدمت على مدى 50 دقيقة، تعدد وتشابك بعضها، وانفردت لوحات لا سيما لوحة الراقصة والغراب، ولوحات القناع، والصراع على الكراسي، الصراع بين المرأة والرجل، وصراعات أخرى مسكونة بالخوف والقلق والتوتر، أعادتنا بعض المشاهد بما عكسته من دور سيميائي وسينوغرافي، إلى قناع جاك ليكوك المحايد.
أربعة ممثلين، تقاسموا الأدوار والصراع، امرأتان وشابان، أربعة كراسٍ أيضًا، إلى جانب راقصة باليه وراقص، وفضاء من المؤثرات الصوتية لا سيما الموسيقا والتي قدمها واختارها الفنان طيفور ببعد ساحر، والتي شكّلت بطلا حقيقيا داخل العمل، و دافعا لحركة الممثلين، موسيقا الجسد، هذه اللغة التي تصل إلى العربي والإنجليزي والياباني على حدّ سواء، لهذا يرى المسرحيون أن لغة جسد الممثل هي العمود الفقري لنجاح العمل.
في "وحشة"، طغت لغة التوتر والتناقض والقلق والصراع، "لغة الحركة"، فإذا كان ثمة ثلاثة نصوص في المسرح، نص المؤلف ونص المخرج ونص المتلقي، ففي المسرح الحركي ثمة نص الممثل
في "وحشة"، طغت لغة التوتر والتناقض والقلق والصراع، "لغة الحركة"، فإذا كان ثمة ثلاثة نصوص في المسرح، نص المؤلف ونص المخرج ونص المتلقي، ففي المسرح الحركي ثمة نص الممثل، هذا النص الذي يكتبه الجسد بالتعبير والحركة، مستخدما طاقته التشخيصية في توليد الحركات الإبداعية المناسبة لسياقات التمثيل والتشخيص الدرامي..
يقول المخرج وليد قوتلي: "السينوغراف مكوّن من جسد الممثل، الإضاءة، الموسيقى، وكل ما يجري على خشبة المسرح، حركة الممثلين، وكانت الألبسة جزءًا من التشكيل والسينواغرافيا".
وعن توحيد اللباس بين الممثلين قال: "أردت أختيار تيشيرت أزرق و بنطال رمادي، لأشير إلى أن من يقف على المسرح فرقة مسرحية، بعيدا عن خداع الجمهور".
وحول الهواة يقول: "المأزق في التعامل مع هؤلاء أن بعضهم يظنون أنفسهم نجوما بعد أن يقفوا على المسرح، والجيد هو حماسهم للشهرة وخوض التجربة".
الكرسي بمرموزاته
يتمظهر استخدام مفردة الكرسي في الفضاء المسرحي، في صورتين و ربما أكثر، الأولى أيقونية، بدلالة واقعية، والثانية دلالية متحولة في السياق المرئي والمسموع ضمن مشاهد المسرحية كالشخوص الإنسانية، والأمكنة المتغايرة وبحسب التأويلات المتعددة.
فالكرسي من الأدوات أو قطع الأثاث، يسهم في إظهار الشخوص المتباينة في مواقعها الاجتماعية، وفي جعلها تبقى حية وتتطور لتعيش حتى نهاية الحدث الأخير في المسرحية، وهذا ما تضمنته فضاءات أكثر من مسرحية محلية وعربية.
دلالات متحولة
يبدو واضحا في مسرح "قوتلي"، تركيزه على الكراسي، فقد استخدمها في أكثر من عرض كان آخرها "قسوة"، وقبلها من دون تعليق، "يوميات مجنون"، التي قدمت في باريس و التي جسدها الفنان بسام كوسا.
الكرسي يتجلى في توظيفه لإنتاج إشارات يتواصل معها المتلقي إلى ما لا نهاية من الصور والمعاني، يقول قوتلي:"يمثل الكرسي بالنسبة لي الأساس الذي ترتكز عليه الشخصية، كونه معلماً أساسياً مفتوحاً على احتمالات، يمكن أن يعتبر بيتاً، أو عملاً ، الكرسي يحمل عدداً من الاحتمالات، وممكن أن يمثل السلطة والصراع عليها، من هنا تكون مناخات الصراع والتنافس لإثبات الوجود".
طقوس الربيع
بدأ العمل مع موسيقا سترافينسكي في إشارة للربيع، المشهد الأول وراقصة الباليه التي تصحو كما الربيع، لتملأ المسرح بالرقص، وإلى جانبها راقص آخر يمثل الغراب، أو الشر. واختتم العمل برقصة وصراع مع الغراب، الذي استطاع سحب الراقصة رمز الربيع من المسرح.
يؤكد قوتلي أن المسرح الحركي: "هذا الاتجاه العالمي، يمثل لي حبي الحقيقي، أما الإسقاطات على الثورة السورية، فممكنة رغم أنني أرى أننا نعيش داخل الحدث، ولا نزال في المعممة، لا شك أننا بحاجة إلى فاصل بارد".
من هنا فإن وظيفة الفن أنه يحمس الناس، يطرح تساؤلات دون إجابات، من منا لا يقف عند صرخة مونش، أو الجيرنيكا ، من هنا جاء ترجمة العالم المغترب والمستلب.
وحول الرسالة من العمل، يقول: "في المسرحية قدمت ما عندي من صراع بين المرأة والرجل، لا أضع الرسالة قبل الفن، مشاهد كثيرة خلقت على المنصة أثناء التمرين، العالم كله يعاني من اغتراب، مستلب، أفكار المجتمع التي تتقاطع مع (داعش) بمعنى من المعاني، بعيدا عن ارتداء الأسود وقطع الرؤوس".
يبدو واضحاً اللون القاتم والصراع المفتوح داخل العرض، والذي يذكر بمسرحية "الحضيض"، لمكسيم غوركي والتي تخلو من أي شخصية إيجابية، يرد على هذا بأن: "عرض مثل هذه المسرحية يخلق عند المتفرج البحث عن النقيض، للتخلص من صورة المستبد مثلًا، وليس مهماً بالنسبة لي غياب لحظة الحب أبدًا، فالمسرح الحركي، أي التعبير الجسدي يعطي الكثير من الاحتمالات و التساؤلات ويجعل المشاهد مشدودًا، من هنا أرى بأن اللغة قاصرة أن تعطي المضمون الذي أريده، اللغة تعطي تفسيراً واحداً، في حين لغة الجسد لانهائية".
إن أهم نص مسرحي ليس هو نص المؤلف الذي يمكن الاستغناء عنه، بل هو نص المخرج الذي بتعاونه مع الممثل يصل إلى مفاهيم ومضامين وتساؤلات يترجمها الجسد بالحركة إلى عرض سينوغرافي ساحر يسهم الجمهور في قراءته كلّ حسب رؤيته وثقافته، وفي عرض "وحشة"، حضر جمهور نوعي، وكان هذا جزءاً من العرض واللقاء في زمن أخذنا إلى العزلة بسبب كوفيد 19 المستجد.